بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين.
وبعد، حسب بعض الآثار التاريخية، والموجودة في المقاتل التي تبحث في واقعة كربلاء، وآثارها ومقدماتها، يظهر منها أن آل البيت، آل بيت الحسين، وآل بيت رسول الله، دخلوا الشام في أول شهر''صفر''، أي بعد مرور عشرين يوماً من تاريخ إستشهاد الإمام الحسين (ع). والسبب في ذلك، وفي مرورهم على البلاد المتعددة، أنه في سابق الزمن لم تكن متوفرة الوسائل الكافية والسريعة، التي تؤمن مرور القوافل في الصحراء. كانوا يخافون الصحراء نظراً لعدم وجود الماء ووسائل الحياة، ومحل راحة الراكب والمركوب، فكانوا يحاولون أن يعبروا البلاد العامرة.
هذه البلاد، وإ ن كان الخط الذي مروا به عليها غير واضح وغير مسجل في التواريخ، لأن من كان مع الأسرى، ومع الرؤوس الطاهرة، كانوا يحاولون ان يمروا في خطوط لعلّها تختلف عن الخطوط الاعتيادية في السير، لأسباب سياسية وللمحافظة، وللخوف من الإنقلابات والمشاكل التي قد تطرأ في الطريق، ولهذا كانوا يمرون من البلاد الكبرى.
هذه البلاد، تظهر مرور آل البيت ومرور الرؤوس الطاهرة عليها بما بقي فيها من الآثار، والعلائم على أن آل البيت مروا من هذه النقاط. هذه الآثار هي المشاهد التي بنيت باسم مشهد رأس الحسين (ع). في كثير من البلاد بنيت مشاهد، ولا شك أن رأس الحسين لم يدفن فيها، ولكن وضع فيها أو حفظ فيها لعدة ساعات، أو وقعت قطرات من دمه في تلك الأماكن ثم احترموها وبنوا عليها مشاهد بل ومساجد، لأن هناك حديثاً عن رسول الله (ص) يقول:'' ما بني مسجد إلا على قبر نبي، أو وصي، أو شهيد استشهد فأصاب تلك البقعة قطرة من دمه، فأبى الله إلا أن يبنى فيها مساجد''.
هذا التعليل أو شبهه، أدى إلىبناء مشاهد باسم رأس الحسين (ع) في كثير من البلاد. هذه المشاهد كآثار، تدل على خط عبور آل البيت في رحلتهم من الكوفة إلىالشام. هذه الرحلة التي استغرقت حوالي عشرين يوماً أو أقل من الزمن.
في بعض البلاد مثل عسقلان، مثل حماه، مثل حمص.. هناك أماكن باسم رأس الحسين؛ حتى في حلب، هناك مشهد باسم مشهد النقطة لا يزال موجوداً، هذا المشهد بناء كبير ضخم من أضخم المساجد، هدم في أيام الأتراك حينما وضعوا فيه أسلحة ومهمات وعتاداً، ثم احترقت فأنهدم المسجد. ومؤخراً بدأوا بتجديد عمرانه بالشكل القديم، بأمر من المرجع السيد الحكيم حفظه الله، وبالتبرع منه ومن بعض المؤمنين.
هذه المساجد وضعت ثم عمرت بشكل كبير في أيام الحمدانيين، الذين كانوا في تلك المناطق وكانوا يوالون آل البيت موالاة كبيرة.
فإذاً، نحن بإمكاننا أن نتصور أن الرؤوس الطاهرة والأسرى، قد مروا بهم على طريق العواصم. وحسب الخط الجغرافي، من المحتمل جداً أنهم مروا على بعلبك ايضاً.
وخلاصة الكلام، أن هؤلاء مروا على كبريات المدن، التي كانت واقعة بين الكوفة والشام على طريق الساحل.
هذا الخط التقريبي، يؤكد لنا مع بعض الآثار والتواريخ التي تقول إنهم دخلوا في'' الرملة'' مثلاً، أو في'' عسقلان''، وكان الناس متهيئين لاستقبالهم، وللفرح بورود الأسرى وأمثال ذلك، بما يدل على أن آل البيت مروا من هذه النقاط الكبرى - العواصم والمدن الكبرى ـ التي كانت في وقتها في فلسطين وفي لبنان وفي سوريا.
في هذه المدن التي كانوا يمرون فيها بآل البيت، ما من شك أن الأمر، كحادثة عامة، انتصار للخليفة: رؤوس مقطوعة، سبايا، أسرى، جميل... كل هذه المسائل تلفت النظر. طبعاً، انتم تعلمون انه عندما يمر جميل من مكان، يخرج اهل البلد للتفرج، فكيف إذاكان يخصهم، يعني خليفتهم وبلادهم. لذلك من الممكن أن نتصور أنه من الكوفة إلىالشام، في هذه البلاد الكبيرة وفي كل بلد دخلوا فيه، وأدخلوا الرؤوس الطاهرة وآل البيت، كانوا يقابلون بإحتفال من الناس ومهرجانات وتقابل مع الجماهير في هذه المدن المتعددة. وما من شك أن هذه المسائل حصلت في كل بلد إذ ليس من الضروري أن يكون هذا مذكوراً في'' المقاتل'' حتى نفهم، بل نقدر أن نستنبط من روحية الناس والوضع العام.
ما من شك أنهم في كل بلد كانوا يدخلونه، كان هناك حكام من قبل الخليفة، وبالتالي كانوا يحتفلون ويبتهجون بالإنتصار. فكانوا يقابلون بالناس. والناس عندهم روح الفضول بطبيعة الحال ويريدون أن يسألوا، يفهموا! أنه ما الأمر؟ وما هي القصة؟ من هؤلاء؟ لماذا قطعت الرؤوس؟ لماذا أتوا بالسبايا؟ من هؤلاء؟ خوارج أم غير خوارج ...
وسرعان ما يجد في البلاد الإسلامية، آنذاك، من يتعرف على هؤلاء؛ وبسرعة يتمكنون أن يفهموا، وحتى إذا لم يعرفوهم فما من شك أن هناك طفلاً، هناك صغيراً، هناك كبيراً هناك شيخاً... يدنو من أحدهم ويسأله: من أنتم؟ من أي الأسارى أنتم؟
طبعاً أن هذه العبارة وردت في كثير من المقاتل: من أي الأسارى أنتم؟ أنتم من الزنوج؟ أو من الديلم؟ أو من التتر؟ أو من بلاد الكفر؟ من أي الأسرى؟
لأن من طبيعة العالم الإسلامي آنذاك، أنهم كانوا يعتبرون الخوارج هم الكفار الذين يخرجون على الدين، ويخرجون على الإمام، وينحرفون. فكانوا يسألون هذا السؤال وهو وارد في أكثر من موضع: من أي الأسارى أنتم؟
ولا شك أن أهل البيت، سلام الله عليهم، رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، كانوا يعرفون كيف يجيبون على هذا السؤال، فكانوا يقولون: نحن من أسارى آل محمد. كيف هذا!؟ من أسارى آل محمد؟! وهل آل محمد يْسَبون ويؤسرون؟ فحينئذ كانوا يشرحون القصة. هذه القصة كانت تنعكس على المستمعين، فليتفون ويستمعون أكثر. وهنا يجب أن يأتي دور الحديث أو الخطاب، فأما علي بن الحسين (ع) يتكلم، وأما زينب تتكلم، او أم كلثوم تتكلم.
أحدهم كان يتكلم ويشرح للناس ماذاجرى. ولهذا نجد في كتاب المقاتل عشرات من الخطب والكلمات ألقيت ومسجلة. أين ألقيت؟ في الكوفة وفي الشام هذا بيّن. اما في سائر المدن فهذا غير بيِّن أما لعدم وجود الرواة، أو لأنهم تذكروا هذه الخطبة أو تلك أين ألقيت، فالحاصل أن هذه القافلة خرجت من الكوفة، ووصلت إلى الشام وعبرت على المدن الكبرى، وفي الطريق، وفي كل مدينة كان يجري الإستقبال والتساؤل والجواب والإلتفاف. والخطبة والتعرف والندم والبكاء، والحركات الثورية وأمثال ذلك. من طبيعة الحال أن هذه المسائل كانت تحصل في كل رحلة، وفي كل مرحلة من هذه المراحل.
هنا يتبين تماماً ما ذكرت في الأسبوع الماضي، وفي احتفالات عاشوراء، يتبين دور النساء من آل البيت: زينب وأخواتها، وما فعلن.
كما قلت، كانت النية متجهة إلى أن يقتلوا الإمام الحسين، ويقتلوا جميع الرجال ويخفوهم في الصحراء، ويندمل بالرمال مكان دمائهم وأجسادهم، ولا يعرف أحد ماذا حصل وماذا لم يحصل. ولكن، كما يقول الإمام الحسين (ع):'' أن الله شاء أن يراهن سبايا''.
لماذا شاء أن يراهن سبايا؟
حتى يقمن بهذا الدور، حتى يؤدين هذا الدور، حتى يكشفن النقاب عن هذه الواقعة الغريبة في تاريخ الإسلام، حتى يكشفن النقاب عنها أمام كل العالم. ولهذا بدأوا من الكوفة ومروا بالمدن الرئيسية الكبرى ووصلوا إلى الشام، ثم انتقلوا إلى المدينة، وانتقلت زينب سلام الله عليها إلى مصر. وفي كل بلد كانوا يتحدثون عن الذي جرى، ويحكمون على تصرف بني أمية، ويزيد بالذات، بمخالفته للدين والشرع والإنسانية والشرف.
وهكذا مهدت زينب سلام الله عليها، وبتوجيه منها لبقية النساء، مهدن العالم الإسلامي كله أمام الوضع الحقيقي، والنوايا الحقيقية لبني أمية، فعرف الناس من هم حكامهم، وما هي قيمة هؤلاء الحكام في منطق الإسلام.
والإنسان، إذا نظر ودرس هذه الخطب العجيبة التي ألقيت في كل مكان، فإنه بلا تردد وبلا شعور، ينحني أمام هذه العظمة بالتواضع والتقدير والإكبار.
تقف زينب، في أي مكان، من دون أن تشعر بالمصيبة أو المصائب، ومن دون أن يظهر عليها تعب الطريق ومشقة الطريق، ومن دون أن يظهر عليها الأسر ومشكلة السبي، ومن دون أن تخاف من الجيش المراقب، وحتى من حكامهم وكبارهم وصغارهم. من دون الإعتناء بكل هذه المسائل النفسية والمسائل الجسدية، لأن سفر عشرين أو ثلاثين أو اربعين يوماً في الصحراء على الجمال، وبالشكل المعهود ينهك الجسم بالفعل ويتلف القوى. ومع ذلك نجد أن زينب (ع)، في كل خطبة وكأنها جالسة في البيت، وراء المكتب، تدرس وتراقب كل كلمة تلقيها. فلا تجد في جميع هذه الخطب كلمة بكاء، ولا الويل ولا الثبور، ولا كلمة خارجة عن الإعتدال أبداً. كل خطبة تبدأ بالحمد لله، والشكر له، والثناء لله، والحمد والمدح والصلاة على رسول الله، وعلى آل بيته، بكل منطق وبكل هدوء، ثم تبدأ سلام الله عليها، في كل خطبة تشرح القصة بشكل موجز ومثير، وتحرك الناس وتجعلهم يندبون ويتوبون ويتأثرون مما جرى.
أما في مجلس يزيد فقد بلغت زينب سلام الله عليها القمة في الحديث.
كما سمعتم، أكثر من مرة، في خطبتها التي ألقتها في مجلس يزيد، أمام الملك الطاغية المنتصر المغرور تقف ولا تبالي. هناك تعبير خاص بالنسبة إلى دخول زينب سلام الله عليها، إلى مجلس يزيد، أنها دخلت وعليها أرذل ثيابها. هذا التعبير يكشف تماماً عن وضعها الروحي، ووضعها الجسمي، وأنه زيادة على كل المصائب، هناك مشكلة اللباس الخَلِق.
اليوم حينما يواجه الإنسان شخصاً، أو يواجه عدواً، أو يواجه ناساً ولباسه ليس مرتباً، فإنه يشعر بنوع من الإحتقار، أو نوع من الذل، أو نوع من الضعف. أما هؤلاء فبالرغم من كل هذا يعني أن جميع وسائل الضعف، كانت موجودة عند زينب، وجميع وسائل القوة كانت موجودة عند يزيد؛ الأسباب المادية. ما عدا سبب واحد، هو السبب الرئيسي في قوة زينب وفي ضعف يزيد؛ السبب إيمان زينب بالله وعدم إيمان يزيد بالله، وشعور زينب بأنها ملتزمة مع نفسها تقوم بالجهاد، تدافع عن سبيل الله، تؤدي الواجب، ويزيد على العكس تماماً.
ولهذا، وبالرغم من كل هذه الأسباب، عندما نقايس بين كلمات زينب وكلمات يزيد، نجد أن زينب في أعلى عليين تتكلم مع شخص في أسفل سافلين، بكل أدب وبكل قوة وبكل حزم. في خطبتها فقرات يندهش الإنسان حقيقة لها، وليس للإنسان إلا أن يحترم ويكرم، ويقف متواضعاً أمام هذه القوة.
بعد الحمد والصلاة، والتذكير بآيات الله وفلسفة الموقف. زينب تقف تفلسف المعركة أن كيف حدثت. كيف يقبل الله بأن يقتل الحسين وينتصر يزيد؟ تشرح وتفلسف بآية واحدة:'' ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيراً لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادو إثماً ولهم عذاب مهين'' آل عمران/ 178
إنتصارك إنتصار مؤقت، إنتصار حتى تنكشف أمام الناس. أعطاك الله المال وأملى لك، وأعطاك فرصة حتى تبين ما في قلبك، ما في نيتك، حتى لا يكون لك عذر ولا للناس حجة، ولا لأحد بحث على ما يقوم به الله من عذابك، ومن خزيك في الدنيا والآخرة.
تفلسف الموضوع بهذه الكلمات، وفي خلال الأحاديث تتحدث أحاديث غريبة. في الأثناء تقول هذه الكلمة العجيبة:'' ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك''، يعني أن مخاطبتك ليست شيئاً طبيعياً بالنسبة لي، وأنما الدواهي والمصائب الكبرى تجعلني أتحدث معك.
''ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك'' وتفرض علي المصائب أن أقف أمامك وأتحدث معك، لكن هذا لا يمنع من شعوري النفسي:'' فلئن جرت علي الدواهي مخاطبتك إني لأستحقر قدرك وأستكبر تقريعك وأستكثر توبيخك''.
ومع ذلك أنا أتكلم معك، لكن لا أعتبرك أهلاً للكلام وليس أهلاً للمخاطبة؛ وأكثر من هذا، لست أهلاً للتوبيخ والتقريع. الإنسان يؤنب ويوبخ الشخص الذي يكون قابلاً للتوبيخ، أما أنت فلست قابلاً للتوبيخ.
''وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأولياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء''.
أنت يرجى منك الخير؟ أنت الذي عملت. هذا واقعك، هذه طبيعتك. أنت ابن هند التي نبت لحمها من دم الشهداء، ولفظ فاها أكباد الأولياء.
فإذاً، بالرغم من كل هذه العوامل، نجد أن زينب كبيرة كبيرة أمام يزيد. وهكذا يريد الإسلام نساءً من هذا النوع، الإسلام لا يريد نساءً
مسيرة الإمام السيد موسى الصدر
محاضرات في العقيدة - المجلد الحادي عشر